للمراكشية / ذ أحمد متفكر
لما كثر العلماء، وتوافر عدد الطلاب بمراكش، فكر أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين في إنشاء جامع يؤدي وظيفتين: الوظيفة الدينية التعبدية، والوظيفة التعليمية، فشرع في تشييد الجامع – الذي ظل يحمل اسمه عبر القرون و الأجيال ـ سنة 514 هـ/1120 م .
وسمي الجامع أحيانا بجامع السقاية، نسبة إلى السقاية التي أحدثها علي بن يوسف إزاءه. ونرى ذلك في بعض الكتب المحبسة على المسجد مثل مصحف المرتضى الموحدي الذي كتبه بيده في عشرة أجزاء، ويعد هذا المصحف أقدم مصحف معروف مكتوب بالمغرب، وقد حبسه على جامع السقاية كما جاء في عبارة التحبيس. ونص التحبيس: (حبسه كاتبها بيمينه عبد الله عمر الموحدي على من يقرأ فيها من المسلمين، وكان استقرارها بالبيت المعد للمصاحف المحبسة قبلها بالقبلة المتصل بالمحراب هناك، وكتب في الثاني من رجب 656 هـ وتحته إمضاءه. والتوقيع هذا صحيح نحن أمرنا به وأن يشهد علينا بمضمنه إن شاء الله عز وجل، وذلك في التاريخ المذكور جعل الله ذلك ذخرا لدينا)[1]. كما سمي بجامع المرتضى في بعض المصادر، لأن هذا الخليفة أعاد بناءه من جديد سنة 654 هـ/1256 م بعد أن خربه الخليفة عبد المومن الموحدي .
ويحدثنا التاريخ أن الأمير علي بن يوسف اعتنى اعتناء فائقا بهذا الجامع، وحشر لتصويب قبلته أربعين فقيها من فقهاء الأندلس من بينهم ابن رشد الكبير، ومالك بن وهيب وغيرهما. يقول أبو علي صالح المصمودي : [ولم يكن في المغرب الأقصى محراب اشتهر أن الفقهاء أجمعوا على تصويب قبلته عند بنيانه فيما بلغ علمنا إلا مسجد واحد هو مسجد علي بن يوسف بمراكش . فجمع علي بن يوسف على تصويب قبلته أربعين فقيها أو أكثر فيهم مالك بن وهيب، وأبو الوليد ابن رشد صاحب البيان].[2] وقد كلف بناء الجامع ستين ألف دينار مرابطية[3].
وعندما دخل عبد المومن الموحدي مدينة مراكش بعد حصار دام سبعة أشهر، قام بتنفيذ وصية المهدي بن تومرت التي يقول فيها: [لا تدخلوها حتى تطهروها]، أي مراكش. وقد فسر الفقهاء الموحدون هذه الوصية بكون المساجد المرابطية منحرفة عن القبلة الصحيحة، فكان لابد من تطهير المدينة من هذه المساجد بهدمها وتعويضها بأخرى ذات الاتجاه الصحيح. يقول الحسن الوزان: [وقد هدمه عبد المومن وأعاد بناءه بغرض واحد هو أن يمحو اسم علي ويجعل اسمه هو مكانه، فذهب عمله سدى، لأنه لا يجري على ألسنة الناس الآن إلا الاسم القديم].[4]
ثم أعاد بناءه الأمير المرتضى الموحدي سنة 654 هـ/1256 م، ثم جدد في العهد المريني يوم بنيت المدرسة إزاءه من طرف يعقوب المريني، ثم أتمها أبو الحسن، ثم أصلحها عبد الله الغالب بالله السعدي سنة 973 هـ/ 1565 م، وفي عهد المولى سليمان العلوي أعيد إصلاحه وبناء صومعته الحالية عام 1235 هـ/1819 م، وترك غربي المسجد أسس الصومعة القديمة. أما بنايته الحالية فهي لا تمثل إلا جزء من المساحة التي كان يشغلها في العصر المرابطي .
ومنذ أسس هذا الجامع وهو مركز من مراكز العلم والثقافة، تشد إليه الرحال، وتعج رحابه بالعلماء وشيوخ العلم، يتنافسون على الإمامة والخطابة والتدريس به. فانقطع إليه من الأندلس من كل علم فحــوله، واجتمع له من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من العصور .
وللجامع ذكر حافل من قديم، فقد قيلت فيه كلمات ثناء وتعظيم، منها ما قاله الشيخ سعيد بن عبد المنعم: [عجبت لمن يقول مراكش لغير جامع ابن يوسف]. وجاء رجل من أكابر أهل فاس لزيارة الشيخ سيدي أبي عمرو، فالتقى به في ملأ من الناس، فاستحضر الزائر معه من الأدب ما يستحضر الأكياس، فسأله الشيخ عن البلد وسكانها؟ فقال له هذا الزائر المقيم من أقصى قلبه بالعقد الصميم على جهة التعجب والتعظيم: الله الله إن جامع القرويين يكاد ينبع العلم من حيطانه، فقال له الشيخ: أعد الأخبار كيف أخبرت بها عن هذا المسجد المسرار، بذلك اللفظ المختار، فأعاد عليه اللفظة بمبانيها، فقال له الشيخ القسطلي بعد أن زادت على أنواره أنوار، كلام جاء من بساط حضرة القهار، الله الله إن جامع علي بن يوسف يكاد السر ينبع من حيطانه، فانقطع كلام المتكلم، حين ظهر له ما بين السر والعلم].[5]
خزانة الجامع :
وضعت في مقصورة هذا الجامع النواة الأولى لخزانة الكتب، إذ في هذا العصر توحدت الأندلس والمغرب، وازدهرت الثقافة الإسلامية بالعدوتين، ونزح عدد من علماء الأندلس وكتابها وفقهائها إلى مراكش حاضرة الدولة، لينعموا بالنفوذ والجاه في كنف السلاطين والأمراء. وبوجود هذا الحشد الغفير من العلماء والأدباء والفقهاء تكاثر الطلبة المتعطشين للعلم، وظهرت حركة جمع الكتب واستنساخها للخزائن الملوكية والمسجدية في عصر يوسف بن تاشفين، واستمرت في عهد خليفته علي بن يوسف، يدلنا على ذلك ما تحتفظ به بعض الخزائن من مخطوطات كتبت في عهدهما أو بأمرهما. وتنافس الأمراء اللمتونيون في إغناء هذه الخزانة .
أما في عصر الموحدين فقد أصبح الجامع وخزانته في خبر كان، ومع مجيء الخليفة المرتضى الموحدي، أعاد إلى هذا الجامع شبابه، وعادت الحلقات التعليمية إليه .
وفي العصر المريني تعززت الدراسة بالجامع وخاصة عندما بنيت المدرسة بجوار الجامع. ومع مجيء الدولة السعدية استعادت مراكش هيبتها وسلطتها كمركز للقرار، وأعاد لها ملوكها اعتبارها وإشعاعها الثقافي، واتسعت دائرة عملها، وتضخم عدد الكتب بها لكثرة ما أوقفه الملوك السعديون عليها .
وفي العصر العلوي انبعثت في شكل جديد، وتميز انبعاثها بطابع آخر هو وضع فهرس لها يمدنا بمعلومات طريفة عن حالها في عصر المولى إسماعيل. كما وضع في عهد المولى عبد الحفيظ فهرس جديد للخزانة [6].