للمراكشية : محمد الطوكي
“إن دين الإسلام جاء لمحو الخرافات ، والاعتماد على العقل ونبذ كل ما ليس معقولا ..فالقرآن عندنا فك عقال العقول حتى اقتنصت شوارد العلم فـي الأرض وفـي السماء ” العلامة محمد بن عبد القادر عن الجواهر فـي تفسير القرآن الكريم للطنطاوي جوهري ، ج6 /108 . |
إن السيرة الذاتية للعلامة العلوي سيدي محمد بن عبد القادر المعروف عند المراكشيين ب : “مسو” متناثرة بين الذاكرة الشعبية و العالمة ، أمسكت كل واحدة منها بما يلائمها ويناسب عقليتها ، و كلما أتيحت مناسبة استدعت ذكر الرجل إلا و تنثال شذرات من سيرته فـي شكل خواطر يستمتع بها الحضور شفويا ثم تطوى إلى أجل غير مسمى ، فكأني بتلك السيرة أو لحظات منها أبت إلا أن تحافظ للرجل على شعبيته و التي من أهم مميزاتها التداول الشفوي ، فكأن التدوين يبتسرها ويفقدها نكهتها وغرابتها.
فمما تلقيناه من أفواه الرجال المعتد بهم ، علماء وطلبة وحرفيين ممن أدركوا مترجمنا فخالطوه مخالطة معتبرة أو حضروا دروسه ، تبين لنا أن مسيرة تحمله العلمية شبيهة بمسيرة أترابه من علماء جامعة ابن يوسف بمراكش ، وتتراوح عادة بين حذق كتاب الله تعالى ، و استظهار مجموعة من المتون و النصوص الأدبية الكلاسيكية ، قد يفهم منها التلميذ شيئا أو لا يفهم ، و بعد ذلك نجد مترجمنا يلتحق بالجامعة اليوسفية ليتحمل ما عهد فيها من العلوم الدينية واللغوية المهيمنة فـي ثلاثينيات القرن الماضي ، ليتخرج سيدي عبد القادر منها عالما مكتفيا بخطة العدالة التي كان لا يمارسها إلا لماما و اضطرارا ، مستنكفا من الانتظام فـي سلك رجال التعليم بالجامعة اليوسفية ، و ما يخول للمنتظم فيه من مراتب و رواتب تلبي فـي أحسن الأحوال الضروري من الحاجيات
فالرجل من هذه الحيثية خارج عن مألوف أترابه ، وحينئذ فما دام قد اتخذ من الالتحاق بالتدريس بالجامعة موقفا ، فطبيعة الأمور تقتضي أن يتقلص إشعاعه ويخمل ذكره ، بيد أن الرجل لم يركن إلى الانزواء فقد فرض نفسه وذاع صيته ، وعد من فطاحل علماء مراكش ، مما جعلنا نتساءل عن مكمن شعبية الرجل ؟ إذ إدراك الشعبية فـي زمان غابت فيه وسائط تسليط الأضواء ليس بالأمر الهين ، فاعتقدنا أن تلك الشعبية آئلة إلى غرابة أطواره .
فإذا كان أمثاله من العلماء قد آووا إلى دور ودارات “فيلا” داخل أسوار المدينة وخارجها ، فنراه قد اكتفى بسكنى دكان فـي سوق مراكش الرئيس قرب جامع ابن يوسف ، وإذا كانوا قد استأنسوا بالزواج و الإنجاب فإن مترجمنا قد آثر العيش حصورا من غير أن يجني على وليدة ولا ولد ، و إذا كان علماء جامعة ابن يوسف يقضون سحابة نهارهم بين الطلبة وأمثالهم من المربين ملتزمين بما يفرض النظام من مستويات ومقررات ومواد ، فإن محيط صاحبنا ابن عبد القادر هو عامة الناس من التجار والحرفيين وجمهور من طلبة العلم ، وكان حرا فـي دروسه ومحاضراته يختار من القضايا ما تمس إليه الحاجة غير مراقب أو موجه من رئيس أو ناظر ، اصطلح فـي دروسه الشرع والضروري من اللغة إلى جانب استفادته وتوظيفه لمعارف علمية وعقلية دقيقة ، ما كان معظم علماء جامعة ابن يوسف يجرؤون على اقتحامها ، ومن هنا تأتى تميزه وذيوع صيته ، فحرص العامة والطلبة على الإقبال على دروسه ، لأنهم كانوا يجدون فيها طعما مفتقدا فـي الدروس النظامية بجامعة ابن يوسف.
العلوم التي كان يتعاطاها وفضاءاتها :
تنوعت دروس العلامة ابن عبد القادر و تراوحت بين العقيدة و السيرة و الحديث و التفسير ، و اختلفت منابر إلقائها بين جامع ابن يوسف ومسجد الشرفاء “حي المواسين” ، ومساجد أخرى قريبة من السوق، دون أن ننسى أن وجوده وسكناه فـي هذا الفضاء الاجتماعي والاقتصادي الواسع – أي السوق – بصخبه و معاملاته و مشاكله كان يجعله عرضة للمساءلة و الاستفتاء فـي مجموعة من النوازل التي تقتضي حلا فوريا ، و هذا دور اجتماعي نفعي و طوعي لا يؤتاه إلا جهبيذ ضرب بسهم وافر فـي العلوم الشرعية بمتونها وشروحها وحواشيها ، وأنكر ذاته و سخر علمه لخدمة الآخرين متعاليا عن الماديات محتسبا ومدخرا أجر عمله ليوم تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرا .
منهجه فـي التفسير :
كانت دروس علماء جامعة ابن يوسف مثقلة بالمباحث اللفظية و الإعراب و الاشتقاق و قواعد البلاغة وتوجيه القراءات والصناعة الحديثية فـي التفسير، وتحتفي بالمباحث الفقهية ، ومزج العقيدة الأشعرية بالتصوف على طريقة الإمام الغزالي ، فتقف على سبيل المثال فـي الاعتقاد بوجود الله تعالى عند البرهان الفطري القائم على أن العالم محدَث ” بفتح الدال ” وكل محدَث فهو بحاجة إلى محدِث ” بكسر الدال ” على حد قول ابن عاشر :
” وجوده له دليل قاطع *** حاجة كل محدث للصانع .”
أو العدول عن البرهان الفطري إلى التفويض ، ومما حفظنا عنهم قول الناظم :
ومن يقل بالطبع إو بالعلة ***** فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعة ***** فذاك بدعي فلا تلتفت
إذا كان هذا منهاج علماء ابن يوسف ، فإن درس سيدي عبد القادر العلوي فـي التفسير ، كما نقلنا عن طلبته و خاصة العلامة المرحوم بعفو الله سيدي المهدي الوافـي (1937/1997)، أنه كان لا يعنى بعلوم الآلة وصناعة الحديث إلا بما دعت إليه الحاجة ليقع الانتقال بعد ذلك إلى المعاني الاجتماعية والنظريات التاريخية و ضرب المثال بحوادث من تاريخ الأمم ، والبحث فـي المعاني الثاوية وراء الآيات الكونية حيث كان يعول فـي باب الاعتقاد فـي وجود الله تبارك وتعالى على أن فـي تلك الآيات الكونية تنبيها للعقل البشري و توجيها إلى النظر فـي الكون و استعمال البرهان الصحيح ، و الرجوع إلى ما حواه الكون من النظام و الترتيب لتعالق الأسباب و المسببات ، ليصل بذلك إلى أن للكون صانعا واجب الوجود، و أن ذلك الصانع و احد لوحدة النظام فـي الكون“1”
و بهذا يكون سيدي عبد القادر قد سار فـي دروسه التفسيرية على منهج المدرسة الحديثة فـي التفسير التي أصل أصولها الشيخ محمد عبده ، من بين من سار على دربها صاحب تفسير المنار رشيد رضا ، و صاحب الجواهر فـي تفسير القرآن الكريم الشيخ طنطاوي جوهري . (1870/1940) خريج دار العلوم والأستاذ بها و بالجامعة المصرية ، و تفسيره من المصادر الأساسية لمترجمنا .
جاء فـي تفسير المنار إننا ” فـي وقت لا يكفينا فيه – فـي تفسير القرآن الكريم ، رأي الأقدمين وحدهم ، فقد استدار الزمان ، وحدثت الحوادث ، وظهرت أقضية وأمور جديدة تستوجب البحث فيما قاله أهل الوقت مثل : ” ليبنتز ” و ” أجيست كانت ” و ” سبنسر ” من كبار علماء الألمان والفرنسيس والانجليز وغيرهم “2”
وكان سيدي محمد بن عبد القادر رحمه الله يميز بين النظريات والقوانين العلمية و بين توظيف الغرب لها فـي أغراض سياسية وحربية استعمارية ، ولهذا فقد كان للرجل فـي وقته مواقف جريئة تتمثل فـي إدانة وفضح الاستعمار الفرنسي الجاثم على المغرب ، و عدم مهادنته لمن سار فـي ركابهم من الخونة ، و يعلن ذلك من على المنابر صراحة من غير كناية أو تورية ، و يستهزئ بالسماعين لهم ويحثهم على ألا يقصروا فـي التبليغ .
لقد قضى سيدي محمد بن عبد القادر عمره بين تحمل العلم وبثه فـي صدور الطلبة وإرشاد عامة الناس ، ينم موضوع محاضراته التي حكي لنا عن شذرات منها ، عن درس طويل وتفكير عميق ، وقد أبدع ، رحمه الله ، فـي تقريب المعارف العلمية و تبسيطها للعامة بعبارة سلسة ، وكشف عما وراء الآيات من دلائل على وجود الخالق ، إن تفانيه فـي أداء هذا الواجب عن طريق التواصل المباشر لم يترك له مجالا للتأليف ، و على كل فإن ما يحصل من نفع بالتأليف قد تأتى بحمد الله باللقاء و المصاحبة و المشافهة والمسامرة وجمهوره هم مؤلفاته .
وقد أسلم رحمه الله الروح لبارئها فـي 24 رجب 1376 هـ موافق 25 فبراير 1957 م “5” ، ودفن بروضة باب أغمات ، و شيع جنازته جمهور غفير ، فقد أغلقت فـي ذلك اليوم المحترفات ودكاكين السوق الذي كان يسكنه ، و عطلت الدراسة فـي الجامعة اليوسفية ، و هذا المقام ذكر بعض طلبته الذين أصبحوا من العلماء تفسير سيدي محمد بن عبد القادر أخذا بدلالة مفهوم الآية العاشرة من سورة ” الدخان ” حيث قال رحمه الله : ما معناه ” إن العالم إذا مات بكت عليه السماء و الأرض كناية عن تفطنه ، لماذا خلقت هذه العوالم ? و لماذا خلق هو أيضا ? فهذه العوالم هي موضوع تأمل العالم و بحثه واكتشافه واهتدائه إلى أن الله سخرها لإسعاد الخلق وليروا فيها دلائل وجوده،فبين العالم وبينها ود وصداقة ومحبة ،فكيف لا يتأثر المحب لوفاة محبوبه .
نرجو أن نكون قد وفقنا أو قاربنا التوفيق فـي إعطاء فكرة عامة على النفس العلمي لسيدي محمد بن عبد القادر العلوي . والحمد لله رب العالمين .
الإحالات :
1 : محمد عبده : الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية ، مطبعة المنار ، مصر ، 1341 هـ ، ص : 49 .
” يقول طنطاوي جوهري : فـي تفسيره إن تحليل المركب من مظاهر الكون يفضي إلى إدراك الخالق سبحانه ” فالله سبحانه عز وجل حكم على عالمنا الذي نعيش فيه ألا يكون حسن القوام إلا بالتحليل ، و رجوع المركبات إلى عناصرها سواء كانت أغذية للأجسام أو أغذية للعقول ، فلا غذاء لإنسان أو حيوان أو نبات ، و لاعلم لعالم إلا بتحليل ذلك المعلوم ، و لا رقي فـي صناعة أو طب أو زراعة إلا بتحليل الأشياء إلى عناصرها ” ج6 ، ص : 132 .
2 : المنار ، ج14 ، ص : 517 .
3 : أخبرني المرحوم بعفو الله سيدي المهدي الوافـي أن لسيدي ابن عبد القادر رسالة بخط يده فـي العقيدة وقد آثره بها تقديرا لنباهته ، وأنها من نوادر خزانة سيدي المهدي “رحمه الله ” العامرة و للعلم فقد حبسها ورثته بقضها و قضيضها تنفيذا لوصيته ، على الخزانة الوطنية بالرباط لينتفع بها الباحثون و طلبة العلم ، و بهذه الصدقة الجارية يكون رحمه الله قد جمع بين حسنات ثلاث : الصدقة ، والعلم المنتفع به ، و أولاد صلحاء من صلبه وطلبة يدعون له .
4 : طنطاوي جوهري : الجواهر فـي تفسير القرآن الكريم ، ج21 ، ص : 9 .
5 : أحمد متفكر : علماء جامعة ابن يوسف فـي القرن العشرين ، المطبعة الوطنية ، مراكش ، ط 1 / 2006 ، ص : 262 .