– للمراكشية : ذ. محمد الطوگي
المؤثر التربوي الوطني : ومن مظاهره :
– التعليم الحر – ولا علاقة له بما يعرف اليوم بالتعليم الخاص ، وقـد تمثــل في الكتاتيب القـرآنية الحديثة المتجددة Les msids rénovés ، مقابل الكتاتيب التقليدية أو العتيقة المفتقدة إلى مجموعة من المواصفات التربوية والصحية سواء في بنائها أو وسائلها المادية والتربوية.
– يعتبر التعليم الحر وليد الحركة الوطنية، وأحد وجوهها التربوية والثقافية، وكرد فعل وطني على السياسة التعليمية الفرنسية القائمة على التجهيل والتفرقة وطمس الهوية المغربية. بدأ، بحسب طبيعة الأمور، ضعيفا خلال العشرينات وأخذ في التطور بدءا من الثلاثينات، ليبلغ أوجه كما سنرى في الأربعينات، ففي ظل ذلك الحماس، المواكب للحركة الوطنية، تطوع محسنون فحبسوا دورا ورياضات ؛ راوحت في البداية بين ثلاث أو خمس غرف، خصصت لتربية أبناء المغاربة وتعليمهم تعليما وطنيا عربيا إسلاميا ردا، كما قدمنا، على مقررات التعليم العصري التابع للحماية . ويجمع التعليم الحر بين مقومات الهوية الوطنية والانفتاح على العصر، وقد انتهى إلى أن أصبحت برامجه مطابقة لبرامج التعليم الابتدائي بمراحله الثلاث في كل من القرويين وابن يوسف، بالإضافة إلى ذلك زيدت ساعة خاصة بالفرنسية في كل يوم باستثناء مرحلة السنة الأولى (5). وبإدخال تعليم الفرنسية تسلحت المدرسة الوطنية الحرة لخوض معركة التنافس مع المدارس الحكومية، كما اهتمت بتسليح عقول النائشة بلغة أجنبية حية تفتح لهم آفاق جديدة في الحاضر والمستقبل. والوثائق الإدارية والظهائر المتعلقة بتنظيم هذا التعليم تبرهن على سرعة تطوره وقد تسلسلت كالآتي : ظهير 14 أكتوبر 1919 يتعلق مضمونه بمسطرة فتح المدرسة الحرة، إذ لا يرخص بفتحها إلا بإذن من المخزن. وهناك ظهير فاتح أبريل 1935 الذي دقق في تنظيم هذا التعليم وأسند الإشراف عليه لمندوبية المعارف الإسلامية (6).
فهذا محمد بن حسن الوزاني (1910-1978) يتحدث عن الخلفية الإيديولوجية، وعن بعض المظاهر التربوية لهذه المدارس الوطنية الحرة وتحدياتها في العشرينات ولغاية الثلاثينات قائلا : “في بداية النهضة الشابة، والحركة الإصلاحية السلفية، فكرنا في تأسيس مدارس حرة تتعلم فيها الناشئة أصول الدين والعربية والعلوم، زيادة على القرآن وذلك بأساليب جديدة، كاستعمال الكتب العصرية، والسبورة، والدفاتر، مع تنظيم أوقات الدراسة والعطلة وإجراء الإمتاحانات، وكل هذا على نسق المدارس العربية الفرنسية لأبناء المغاربة، وكان في إحداث هذه المدارس تطوير كبير، وتجديد أساسي لكتاتيب القرآن (المسايد)، كما كان فيه رد فعل ضد طغيان التعليم الفرنسي على الديني والعربي في المدارس المغربية الرسمية، وقد لقيت حركة المدارس الحرة تأييدا وتشجيعا من كثير من الآباء في مختلف المدن، كفاس، والرباط، وسلا، والدار البيضاء، ومراكش، ومكناس، وتازة، ووجدة، وطنجة، وتطوان، والقنيطرة، وكان التلاميذ يؤدون مشاهرة لمواجهة المصاريف من كراء ونور وماء وتجهيز داخلي وأجور غير المتطوعين من المعلمين …
ومنذ برزت تلك الحركة للوجود، اصطدمت بمناورة الجامدين الذين اعتبروها بدعة وضلالة، بل خروجا عن الدين كما كانوا يفهمونه خطأ وانحرافا ، وتعرضت تلك المدارس في نفس الوقت لصراع مشتد ومتزايد مع سلطات الاستعمار التي رأت فيها أداة حرب لوجودها وسياستها، وثقافتها، ومصيرها، ولكن إرادة الله وعزيمة الشعب بقيادة المخلصين من رجاله كانتا أقوى من كل باطل “(7).
وفي معرض تأييد الشعب وتجاوبه وإقباله على هذه المدارس الحرة، يقول تلميذ من روادها الأوائل آنذك، العلامة المؤرخ محمد التازي سعود، مستعملا ضمير الغائب في حكايته عن نفسه : “تربى في فاس، ودخل الكتاب القرآني، ثم نقل سنة 1927 إلى المدرسة الفرنسية العربية، حيث قضى سنتين، قرر بعدهما جده المرحوم عبد الرحمان أن يعيده إلى الكتاب القرآني لعدم رضاه عن تلك “البلبلة” التي سمع حفيده يلغو بها وهو يحفظ أحد دروس المحادثة باللغة الفرنسية، وبعد ذلك تعددت للطفل مسالكه التعليمية من المدرسة الحرة بالمخيفة بفاس ثم القرويين … “(8)
أما عن المدارس الحرة في مراكش فيمكن إرجاعها تاريخيا إلى فترة ما بين الحرب العالمية الأولى ونشوء الحركة الاحتجاجية على السياسة البربرية في مايو 1930 . يقول العلامة والمناضل الصديق الغراس (1922-1996) : ” إن العلامة المختار السوسي كان وراء جميع التظاهرات التي قاومت الظهير البربري، فهو الذي أقنع السيد التهامي المعروفي بدعوة الناس في الأسواق لقراءة اللطيف في المساجد، كما كلف السيد العربي بنيس بتوزيع مناشير في الموضوع، فاحتال لتوزيعها في السجن والمساجد والأضرحة وغيرها” (9)
ولا غرابة إذا كان على رأس تلك المدارس في مراكش مدرسة محمد المختار السوسي (1900-1963)، وهي بالأصالة زاوية استطاع منشئها أن يوفق فيها بين متطلبات فقراء الزاوية الدرقاوية (10) ورهانات المدرسة الوطنية، وقد اقتدى به علماء آخرون فتعاون وإياهم، فكانوا وإياه في صف واحد، ومشوا مشية متحدة نفعهم وضرهم يتساوون فيهما يقول: “فهؤلاء إخوتي الأساتذة الأجلة : سيدي عبد القادر المسفوي (1892-1958)، سيدي عبد الجليل بلقزيز (1900 -1967)، سيدي أحمد بن الفضيل (ت1368هـ-1948م) سيدي محمد بن عبد الرازق (1906)، علامة فلكي خلف أستاذه العلمي في علم الفلك، وسيدي ابريك الغراس (1906-1996)، فهؤلاء أنا منهم وهم مني قياما وقعودا وعلى جنوبنا، وجهتنا واحدة، ومبادئنا في المعارف وفي بثها في الناس كأنما هي كلها حيكت على منوال واحد” (11).
ويقول ولغاية الثلاثينات : “كان إذ ذاك تحت أيدينا جميعا تسع مدارس بالإضافة إلى ما تقدم – مدرسة أخي أحمد أكرام (1884-1957)، والجميع يعتني بالعربية ويحفظ القرآن، وهل يقبل الاستعمار تنشيط العربية وحفظ القرآن” (12).
إلا أن هذه المدارس التي أنشئت في مراكش في الثلاثينات، لم تلبث أن اضطرب أمرها؛ نتيجة للزج ببعض الزعماء من مؤسسيها ومدرسيها في السجن ؛ بسبب ما عرف في مراكش بمظاهرة البؤس. “ففي يوم الجمعة 24 شتنبر 1937 ، كانت مظاهرة البؤس التي نظمها فرع الكتلة بمراكش ؛ بمناسبة الزيارة الرسمية التي قام بها إلى هذه المدينة السيد رمادي وكيل وزارة الأشغال العمومية في الحكومة الفرنسية، فاختارت الإدارة من بين المعتقلين ثلاثة عشر من الوطنيين المعروفين بالمدينة، ونفتهم إلى تارودانت” (13).